هو مجاهد من المجاهدين العظام في زمن اشتدت فيه حاجتنا إلى المجاهدين العظماء.
تعرض للشهادة في مواطنها، وأَبَى إلا أن يغترف من كأسها الطاهر المطهر، لكنه مات على فراشه بعد ملحمة طويلة.
ومعارك جليلة أذاق فيها الروس القياصرة الذل والهوان، وهُزموا أمامه مرارًا، هذا وروسيا آنذاك من القوى العالمية في الطبقة الأولى.
وكانت في أوج عنفوانها وغطرستها، قد هزمت نابليون وتقدمت حتى دخلت باريس سنة 1816م!!
والإمام شامل من داغستان، ولد في قرية منها سنة 1212هـ/1797م، ونشأ فيها نشأة الأبطال الفرسان، على أنه درس بعض العلوم على مشايخ من بلاده.
وداغستان جزء من منطقة القوقاز الشمالي الذي يضم معها الشيشان والأنجوش وأوسيتيا، وهذه المنطقة مواجهة تمامًا للروس.
وهناك القوقاز الأوسط الذي هو جمهورية جورجيا الآن، وكانت تعرف عند المسلمين بالكرج. وهناك القوقاز الجنوبي الذي فيه أذربيجان وأرمينيا. والقوقاز غزاه المسلمون الأوائل وثبتوا في جنوبه وفي مناطق في شمال غربه.
لكن لوعورة المنطقة ولكثرة طوائف وأديان ومذاهب أهلها، لم يستطع المسلمون أن يتحركوا شمالًا، وغاية ما فعلوه أن سراقة بن عمرو الذي كان في زمن الخليفة الأموي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، استطاع دخول تفليس (تبليس) عاصمة جورجيا اليوم.
ثم إن التتار ورأسهم تيمورلنك في مرحلة تحولهم إلى الإسلام، نشروا الإسلام في أجزاء من الشيشان والداغستان وأنجوش.
ثم أرسلت الدولة العثمانية في مرحلة متأخرة نسبيًّا دعاة إلى الشيشان، وأقنعوا جماعات من الشيشانيين بالتحول إلى الإسلام بعد أن كانوا وثنيين.
وكان هذا من قُرابة ثلاثة قرون من الآن، وكان ذاك عملًا رائعًا في منطقة وعرة ضخمة بها أشجار بلوط ضخمة، يبلغ ارتفاع بعضها مائتين وثمانين قدمًا ومحيطها خمسة وثلاثين قدمًا!!
والمنطقة مليئة بهذه الأشجار، وبها جبال وعرة مما يصعب أي عمل عسكري فيها، وهذا من فضل الله على أولئك الدعاة.
ومنذ أن دخل الشيشانيون إلى الإسلام عمدوا إلى الدفاع عن الإسلام ورفع لوائه إلى يوم الناس هذا، ولم تفلح معهم كل محاولات التغريب والتنصير.
وهناك شعوب دخلت قبلهم في الإسلام لكنها أجبرت على التحول إلى النصرانية كما اجتاحها الروس القياصرة مثل شعب الكرج (جورجيا)، التي دخلها الإسلام منذ عصر التابعين، لكن الشيشانيين ثبتوا ولله الحمد.
كان لشامل صاحب يكبره بخمس سنوات يُسمَّى غازي محمد ملا، وكان رفيق دربه، فكانا يدرسان معًا على المشايخ، ويدوران على المساجد، وابتدآ الجهاد معًا.
وكان لبدء الجهاد سبب مؤثر، وهو أن غازي ملا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات وهو يدعوه للجهاد ضد الروس.
والروس آنذاك هم الذين ابتدءوا بالاعتداء، حيث كانت القيصرة كاترين تملكهم، فأرسلت الجيوش إلى تلك المناطق، وتتابع القياصرة من بعدها على إرسال الجيوش.
ولابتداء الضعف في الدولة العثمانية آنذاك-قبل قرابة مائتين وخمسين سنة من الآن- استطاع القياصرة أن يثبتوا احتلالهم لبعض المناطق هناك.
وإضافة إلى ابتداء الضعف في الدولة العثمانية كان هناك انعدام في تنسيق المواقف بينها وبين الدولة الصفوية في إيران بسبب تشيُّعها.
وكان هناك دولة قبرطاي الإسلامية وهم من الشراكسة ولم ينسقوا أيضًا مع الحركة الجهادية ضد الروس.
فأدى كل ذلك إلى احتلال الروس بعض المناطق في القوقاز، وكان سائر العالم الإسلامي يغط في نوم عميق أو مشغول بمشكلاته الداخلية.
تقدمت الدولة الروسية لتحتل القوقاز وكان يدفعها سببان رئيسان: أوَّلهما أن القوقاز طريق إلى التركستان، فإذا أخذوا القوقاز سهل عليهم الاستيلاء على التركستان.
ومن ثَمَّ يتقدمون لأخذ الهند من المغول المسلمين- وهذا هو الدافع الآخر. وفعلًا ما إن أسقطوا دولة شامل إلا ودخلوا طشقند عاصمة أوزبكستان إحدى جمهوريات التركستان، ولم يستغرق منهم هذا سوى سنة واحدة فقط بعد سقوط القوقاز.
لما رأى غازي محمد ملا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات يأمره ببدء الجهاد، تحدث إلى الداغستانيين بهذا فأجابوه، وجاهد الروس ثلاث سنوات من سنة 1829م، ثم حوصر في بلدته غمري هو وشامل ومن معهما، فقتل غازي محمد ملا، وهرب شامل.
ثم استطاع أن يجمع فلول الداغستانيين ويبتدئ الجهاد ضد الروس سنة 1834م إلى سنة 1839م.
وفي تلك السنة دلَّ عليه بعض أمراء الداغستان الخونة وحاصره الروس بقوة ضخمة فيها مدافع لم يكن يملك الداغستانيون شيئًا حيالها، حيث كان الروس يدكون البيوت بها دكًّا، لكن شاملًا استطاع الهرب أيضًا.
وبعد تفكير ومراجعة لأحواله في ظل خيانة أمراء الداغستان، قرر التوجه إلى الشيشان.
وهو معقل حصين جبلي كان أهله أقوى إيمانًا من الداغستانيين وأوفى ذمة، وطبيعة الشعب الشيشاني الصعبة لا تسمح لهم بأن يرضخ بعضهم لبعض، فكانوا بحاجة لرجل غريب يُسلسون له قيادهم.
فكان هذا هو الإمام شامل الذي استطاع أن يصل إلى القسم الجبلي من الشيشان، وجمع حوله فلول أتباعه من الداغستانيين الذين انهزموا من الروس، وبايعه أمراء الشيشان وقبائلهم، وأعلنوه إمامًا عليهم له حق السمع والطاعة والجهاد معه في سبيل الله تعالى.
لما سمع القيصر بهروب شامل وما صنعه في الشيشان، استشاط غضبًا وطلب من قائده حسم المعركة مع شامل، فأرسل الجيوش إلى الشيشان وعلى رأسها أعظم القادة وأكثرهم خبرة في الحروب مع الداغستانيين ومع نابليون، وقاومهم شامل ومن معه حتى اضطر القيصر لإرسال حملة عُرفت بحملة دارجو.
وهي البلدة التي كان يتحصن فيها شامل وأمراؤه، وكان حولها غابات كثيفة جدًّا، وكان قائد الحملة يسمى جراد، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى دارجو، حيث كمن له جيش "شامل" على أشجار البلوط الضخمة التي سبق وصفها، فكان فوق كل شجرة 40- 50 من العساكر.
وكانوا يسكبون الزيت المغلي على الروس، ويرمونهم بالحراب والبنادق، فحصدوا كثيرًا منهم، وفشلت الحملة وعادت أدراجها بعد خسائر ثقيلة.
ثم جرت مناوشات بين شامل وجراد متفرقة.
وبعد ثلاث سنوات في سنة 1845م أرسل القيصر حملة ضخمة قوامها ثلاثون ألف رجل بقيادة ضابط روسي فذّ اسمه روندسوف، فمكر به شامل حيث جعله يتقدم في الأدغال إلى أن وصل إلى البلدة التي كان يتحصن بها شامل، وترك فيها مجموعات قليلة لمقاومة روندسوف الذي تغلب عليها.
وسوَّى بيوت البلد بالأرض بمدفعيته الضخمة، وفي طريق عودته وكان فرحًا مسرورًا بما صنع كان الشيشانيون ينتظرون جيشه في الليل، فانقضوا عليه كالأسود، وقتلوا منهم خمسة وعشرين ألفًا، فلم ينج إلا خمسة آلاف نصفهم جرحى، وقتل قواد روس كبار في المعركة.
شامل ومن معه كانوا من الصوفية النقشبندية الذين اشتهروا بالجهاد، وهي من أصفى الفرق الصوفية ومن أقلها بدعًا.
وكان شامل ومن معه يسمون أنفسهم بالحركة المريدية، وكانت أصول الحركة المريدية تقوم على الشدة والقوة والفروسية وعلى الأذكار والأوراد، وضع شامل لجيشه نشيدًا جهاديًّا جميلًا ينشدونه في معاركهم.
وقد وصفتهم الكاتبة الأمريكية ليزا في كتابها "سيوف الجنة"، وقالت فيه: إن الشيشانيين كانوا يتقدمون للمعارك مع الروس وهم يرتلون القرآن الكريم، وينشدون أنشودة الموت التي تبعث فيهم الحماس والقوة.
بعد حملة دارجو الثانية عمد الروس إلى خطة ماكرة حيث لاينوا أمراء الشيشان ورعاتهم، وأمراء الداغستان فكانوا إذا أمسكوا بهم يطلقونهم ويكافئونهم بالأموال.
وكانوا في المقابل يقسون على المجاهدين جدًّا، وبهذا تأثر كثير من عامة الشيشانيين والداغستانيين، وكان هذا من أوائل بوادر الإخفاق الذي حدث لشامل بعد ذلك.
ارتكب شامل سلسلة من الأخطاء، فقد كان رجلًا عسكريًّا قويًّا، شديد الشكيمة، صعب المراس، فكان يقسو أحيانًا على أتباعه ويفرض حركته المريدية على الشيشانيين، فكان هذا يُوجِد نوعًا من التململ.
وثاني أخطائه الكبيرة أنه كان هناك رجل داغستاني اسمه مراد عدو لشامل في الداغستان، فأصلح بينهما الشيشانيون وصار نائبًا لشامل في الداغستان.
وكانت هناك طائفة من أمراء الداغستان حسدة لمراد، فأوغروا صدر شامل عليه وأقنعوه أن يولِّي ابنه غازي محمدًا ولاية العهد من بعده، ففعل شامل وأخذ البيعة من الأمراء الشيشانيين والداغستانيين..
وهذا الأمر أغضب الحاج مراد جدًّا، فاستقل عن شامل والتحق بالروس، وهذه خيانة كبيرة لكن الحسد والحقد اللذين استوليا على مراد وسوء التصرف من شامل أدى بمراد إلى هذا الذي صنعه، على أن الروس بعد ذلك غدروا به وسجنوه ثم قتلوه.
وهي نهاية أليمة لرجل دوّخ الروس عشر سنوات، وكان له عمل جهادي جيد، لكن أعوذ بالله من الحقد والحسد.
شامل قسَّم حركته المريدية تقسيمًا بارعًا، فكان له مائة نائب وألف مرشد ينتشرون في القوقاز الشمالي، وكان الحاج مراد أحد النواب الكبار والساعد الأيمن لشامل، الذي فَقَده في وقت كان في أمسِّ الحاجة إليه.
استمر المد والجزر بين شامل والروس سنوات طويلة، وقتل منهم جنودًا وقادة كثيرين، وهذا يعد عملًا رائعًا بالنسبة لقوة الشيشان الصغيرة أمام جحافل الروس، لكنه الإيمان الذي يصنع العجائب.
ومن المعارك التي تستحق الذكر أن الروس أرسلوا ولي عهد القيصر في جيش فيه كبار القادة وثلاثون ألف جندي، كل هؤلاء توجهوا إلى بلدة صغيرة، فغطى الشيشان أبواب بيوتهم ونوافذهم بالطين.
فصارت البيوت كتلة واحدة، وغيروا سقوف بيوتهم إلى سقوف خفيفة رقيقة وغطوها بالتراب لتبدو كأنها هي السقوف الأصلية.
فكان الروس يقفزون فوق السقوف فيقعون في البيوت ليجدوا الشيشانيين المريدين أو المجاهدين في انتظارهم، فيعملون فيهم ذبحًا وقتلًا، فرجع الجيش خائبًا خاسرًا بسبب هذه الحيلة الذكية.
لكن شامل لم يكن يستطيع أن يصمد أمام هذه الحملات المتتابعة أكثر مما صمد، فقد بقي في الجهاد قرابة ثلاثين عامًا؛ لذا كانت نهاية قصة الجهاد العظيمة هذه أن استسلم للروس بعد أن حوصر في خمسمائة من أتباعه فقط من قبل جيشٍ يُقدَّر بأربعين ألف جندي؛ لأنه رأى أن حقن دماء من بقي من أتباعه أولى له بعد أنه خانه عدد من أمراء الداغستان وخانته دولة الشراكسة القبرطاي.
وسلم نفسه للروس سنة 1859م-بعد ممانعة كبيرة من بعض أتباعه- فأخذوه إلى روسيا، فبقي فيها مكرمًا تسع سنوات من قبل القيصر والقادة.
ثم طلب من القيصر أن يسمح له بالحج، فوافق بعد تردُّد، فرافقته حملة روسية إلى أن خرج من حدودهم، فحج ثم نزل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقر فيها مجاورًا ثلاث سنوات.
ثم انتقل إلى جوار ربه سنة 1871م بعد جهاد دام قرابة ثلاثين سنة، ووقف صخرة شمّاء أمام أطماع القياصرة ونواياهم التوسعية في المنطقة القوقازية والتركستانية.
وكان من أهم أسباب إخفاق الحركة الجهادية المريدية الشاملية خيانات عدد من أمراء الداغستان، وقسوة شامل على أتباعه في بعض الأحيان وعلى سائر الشيشانيين، فانفض عنه كثير منهم، وهناك عامل مهم هو عدم تنسيق الدولة العثمانية معه لضعفها آنذاك.
بعد استسلام شامل لم يستسلم الشيشانيون بل قاموا بثورات متتابعة، ثم إنه لما جاءت الدولة البلشفية انتقمت من الشيشانيين، فاتهمهم ستالين بمساعدة الألمان فهجّر كثيرًا منهم، ثم عادوا إلى بلادهم سنة 1957م بعد هلاك ستالين.
واليوم الشيشانيون ما زالوا يكبدون الروس الخسائر الفادحة، ولم تهنأ روسيا بالشيشان بعد شامل إلى يوم الناس هذا!! لكن الشيشانيين سيهنئون بالنصر قريبًا إن شاء الله.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ